حدد جلالة الملك في خطاب العرش السامي بافتتاح الدورة الثانية لمجلس الأمة رؤيته للمشروع الوطني الكبير في مئوية الدولة الثانية والذي يتلخص «بتحديث الدولة وتعزيز منعتها ورسم مسار مئويتها الثانية». وبين جلالته ان الاهداف الوطنية يجب ان تتمحور حول التحديث بمساراته الرئيسية الثلاثة: السياسي والاقتصادي والاداري، وأن مؤسسات الدولة يجب ان تتبنى مفهوماً وطنياً جديداً للانجاز يلمسه المواطن الاردني متحققاً على ارض الواقع، حيث ان تحسين ورفع مستوى معيشته هو مربط الفرس والهدف المنشود. وأكد جلالته أنه لا مجال للتردد او الرجعة عن هذا المسار. وبلغة رسم الاستراتيجيات الوطنية، فإن خطاب العرش جاء توجيهاً استراتيجياً واضحاً لا لبس فيه ووضع الكرة في مرمى مؤسسات الدولة لرسم استراتيجياتها وفقاً له. ولا يحتاج المتتبع لمحاولات تنفيذ الاستراتيجيات الوطنية الاردنية خلال العقود السابقة الى عبقرية لملاحظة تواضع الانجاز وغياب المؤسسية بسبب التخبط وعدم الاستمرارية وكثرة التغيير بتغير الاشخاص المسؤولين والحكومات، اضافة الى محدودية الموارد في كثير من الحالات. ولكن هذا لا يعفي القائمين على هذه الاستراتيجيات من اعتماد وسائل تتكيف مع الموارد لتحقيق الأهداف، لأن الاستراتيجية في نهاية المطاف وبكل بساطة هي اهداف وموارد ووسائل توصلك للاهداف. يدرك جلالة الملك مواطن الضعف والخلل في رسم وتنفيذ الاستراتيجيات الوطنية، وباعتقادي ان توجيه جلالته هذه المرة جاء مختصراً وبليغاً وشاملاً وواضحاً لتسهيل اعداد الاستراتيجيات ومتابعة تنفيذها، خاصة واننا نواجه تحولات اقليمية ودولية كبيرة تضعنا امام تحديات كبيرة، اضافة الى التحديات الداخلية. وما اردت التركيز عليه في هذا السياق هي الرسالة الملكية الواضحة التي وجهها جلالته عندما عرج في خطابه تحديداً على بناء الأوطان وعلى القوات المسلحة الاردنية-الجيش العربي والاجهزة الأمنية، حيث قال جلالته بصريح العبارة: «هذا الوطن لم يبنه المتشائمون ولا المشككون... فالاوطان لا تبنى بالمخاوف والشكوك، والمستقبل لا مكان فيه للمحبطين واليائسين». ثم خاطب جلالته نشامى الجيش العربي والاجهزة الامنية باسم الشعب الاردني قائلاً: “انتم الأصدق قولاً والأخلص عملاً». فصدق القول والاخلاص في العمل هو اساس المسيرة الصحيحة في جميع الشرائع السماوية. أليست هذه رسالة واضحة لكافة مؤسسات الدولة ان تحتذي حذو الجيش العربي والاجهزة الامنية في نهجها في البناء والتطوير بكل معنى الكلمة. فالجيش العربي والاجهزة الامنية اعتمدت الاحتراف عنواناً لنهجها ومسيرتها وركزت على بناء القادة واعتمدت منظومة من القيم اوصلتها في المحصلة الى التميز على مستوى الاقليم، ان لم يكن علي مستوى العالم. ولا مجال للتشكيك واليأس في اسلوب عمل الجندي ومؤسسته. اعرف هذا جيداً بحكم عملي في المؤسسة العسكرية التي خدمت بها وبكل فخر اكثر من اربعة عقود. كما أنني افهمها رسالة مضمنة لكل مسؤول يحمل امانة المسؤولية ان يصدق القول ويخلص في عمله. لا اقول هذا انتقاصاً من أي مسؤول ولكنني اؤكد على الحاجة الأساسية لاعتماد منظومة قيم لكل مؤسسة يحاسب منتسبوها ازاءها. وهذا بالمناسبة من الأساسيات في جميع المؤسسات الناجحة في القطاعين العام والخاص وعلى مستوى العالم. ولا بديل عنه كأساس للتطوير الاداري الذي يشكل مساراً رئيساً من مسارات التحديث المطلوبة، لا بل الملحة في زمن اصبح الترهل فيه طاغياً. واذا أردنا النهوض بالأردن وتعزيز منعته والمحافظة على دوره المحوري في الاقليم، فما علينا الا ان نخط بالنهج الذي رسمه جلالته في خطابه السامي. الكاتب: اللواء الركن المتقاعد محمد فرغل المصدر: جريدة الرأي التاريخ: 14/11/2022