صمتٌ شديد، ليلة باردة من ليالي شباط، ينتشر الجنود في الخنادق يلتحفونها كأنها ذلك السرير الناعم الدافئ في بيوتهم، يتسلل أزيز الطائرات المعادية من كل أرجاء الفضاء من فوقهم، لا يخرق هذا الصمت إلا انفجارات القنابل ووميض شظاياها المستعرة هي النور الوحيد الذي يشق ذلك الليل الأسود، " ثبااااااات .. لا تفتح النار إلا بالأمر " هذا الصوت الخشن الذي يتردد بصدوركم الان كان يطرق مسامع تلك الثلة من الجنود القابضين على زناد أسلحتهم ينتظرون ساعة الصفر، العيون تترقب والجباه يغشاها غبار الانفجارات من حولهم، لا حديث للأنفس سوى ذلك الصوت الذي يبث الثبات في الأجساد " الله معنا ". كانت نيران مدفعية جيشنا تزعج تحركات أرتاله في الأراضي المحتلة وتربك مخططاته، ولم تنجح محاولات القتال بهدف الاستنزاف من إرادة القتال على طول خط المواجهة بعد حرب حزيران 67، ضربات متبادلة ومناوشات متقطعة لا ينساها ذلك الجيل من بلدي وهم لا يبيتون ليلهم وشفاههم لا تنفكّ عن الدعاء لله بالنصر لأبنائهم المرابطين، النساء ليلا نهارا لا يتوقفن عن تراويدهن وغنائهن الموروث لأبنائهن وأزواجهن المرابطين، بل ومن يسكن بالقرب من معسكرات الجنود يعددن لهم ما امكن من طعام وشراب ويساعدن في نقل الذخائر، معركة مصير وعقيدة قتالية تمس الوجود، فلا نقاش في إرادة القتال حتى آخر رصاصة .. لآخر نبضة ... وآخر رمشة عين. يشتد القصف ويزداد ثقل نيران الأسلحة الآلية على الخنادق في محاولات بائسة للعدو أن يختبر بثقل نيرانه استعدادات قوات الجيش العربي المرابطة على طول الواجهة، ووقف الرصد الأمامي من جنودنا لمواقعهم التي وإن أخفوها بالستائر والموانع فلن تغفى عن عيون البواسل، لقد كانت بصيرة القلوب لا بصائر العيون التي يرون فيها غزاة الوطن . حانت ساعة الصفر .... " بسم الله اضرب " هبّت الجنود محمود نسور ومنير المصري احمد حسن ومحمد عقلة وأحمد عبد الله حسين وعوض الجراح ورفاقهم بقيادة أيقونة الشهادة الأردنية الرائد البطل منصور كريشان بقيادة معركة الثمان ساعات والتي تتطلب من المنتصر الثبات بالموقع لتحقيق النصر . تمركز الجنود وثبتوا مكان تخندقهم على أحد سفوح منطقة أم قيس، فتحوا نيران بنادقهم وآلياتهم وكل ما هو متاح من عتاد أمام القوة الغادرة، الرماية المتبادلة بلغت ذروتها، الرصاص يزاحم الهواء في الأجواء، القنابل اليدوية تدك العدوان، طائرات العدو تتدخل ترمي حمم النابالم على منصور ورفاقه لإيقاف صمودهم الملحمي ضماناً لسحب قواهم المتهالكة بأقل الخسائر، الغبار لا يشقّه إلا استبسال الشهداء السبعة الذين لم تهدأ نبضات قلوبهم إلا وقد رسموا لوحة فنية، ممشقة بدمائهم، يد ظلت قابضة على حفنة من التراب مضرجة بدماءها، وأخرى لا زالت تعصر الزند لعلها تطلق المزيد من رصاص الحق في وجه جبروت الظالم المعتدي، وذاك الذي سكنت يده على حربته التي اتخذت من صدر العدو غمدا لها، وأولئك الذين انتثرت أشلاء أجسادهم كالآلئ على تراب الوطن. بدأ غبار المعركة بالتلاشي وخيوط الشمس تتسلل بين ذرات التراب المتطايرة، قطرات الدم التي أخذت بالتسلل على أجسادهم تشق طريقها لتراب الوطن، الوطن؟ ما هو الوطن ؟ هو الأرض وإنسانٌ ومبدأ يعيشُ عليها، وبلا مبدأ لا معنى للحياة أو الموت عليها. نعم سقط منا على أسوار قلعة الوطن سبعة من الشهداء وأكثر من أربعين مدنيا في محافظة إربد جراء القصف الغادر على المدنيين، ولكن بقي لنا نحن أحفادهم وأجيال الأمة وطناً حرّا أبيّا عصيّا على من عاداه، حرّا؟ نعم حرّا ... ولكن ما قيمة الحرية؟ أو كيف لنا أن ندرك معنى أن تكون حرّا؟ هي مُراد الرجال يا صديقي بل هي الرجولة بعينها، هي أن تكون ذا هويّة، تنتمي لأرضك ودينك وقوميتك، فلا وطن بلا تضحية بلا شهداء بلا أبطال يصنعون مجداً للأجيال. ارفع رأسك، نعم أيها الأردنيّ العربيّ، يكفيك فخراً قصص المجد التي سطرها أخاك وعمك وأباك وبني لحمتك، لك الحق أن تروي لإبنك الجالس بجوارك قصة من قصص المجد العظيم كقصة الأبطال السبعة؛ أبطال معركة الخامس عشر من شباط لعام 1968، أن تروي لهم تاريخ البطولة والفداء لمنصور ورفاقه الشجعان، أن تعلمهم كيف أن الأوطان لا تحمى ولا تبنى إلا بالتضحية. نحيي من اختار يوم معركة الأبطال السبعة يوم الوفاء للمتقاعدين العسكريين والمحاربين القدامى، فكل من تشرّف بالخدمة العسكرية ورفقة الجندية هو مشروع بطل من الأبطال السبعة، بذل زهرة الشباب وطاقته وعنفوانه في سبيل أن نعيش اليوم بوطن .... وعزّة ... وحرّية.